فصل: (وجوه الإعجاز للقرآن الخالد:)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء على القرآن الكريم .. بلاغته وإعجازه



.(وجوه الإعجاز للقرآن الخالد:)

ولو ذهبنا نستقصي وجوه الإعجاز للقرآن الخالد، ونستعرض صفحات جلاله، لأعيانا الأمر، وانقطعت نفوسنا من شدة البهر، لأنه الكتاب الذي لا تنفد عجائبه، ولا تنتهي غرائبه، ولا يخلق على كثرة الرد.
وإن ما نذكره الآن من وجوه خلوده وإعجازه، لهو قل من كثر، ووشل من فيض، وقبس من روح، وقطرة من بحر، فمن هذه الوجوه:
1- قوة أسلوبه في كل ما تناول، فهو قوي في التعبير عن الأحكام، والأخبار والربوبيات، كقوته في القصص وغيره، فليس هناك تفاوت في الأسلوب لاختلاف الموضوعات.
2- اشتماله على قصص وأخبار الأمم الماضية، وموقف كل أمة من نبيها، كل هذا يسوقه القرآن في دقة بالغة، حتى كأننا نعيش في نفس الحوادث التي يعرضها، والذي بلغنا كل هذا إنما هو رجل أمي لا يعرف القراءة أو الكتابة.
3- اشتماله على نظام في الأخذ به سعادة الأمم وفي البعد عنه تعاستها وشقاؤها {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
4- بلاغة القرآن النادرة، التي لا يحيط بها وصف، ولا يستطيع أن يكشف عن خصائصها باحث، ولقد وضعت علوم البلاغة والنقد والإعجاز للكشف عن مظاهر هذه البلاغة وأسرارها، ثم هي للآن وبعد مضي ما يربو على ثلاثة عشر قرنا من الزمان، لا تزال على أول الدرب، وفي بداية الشوط، وسوف تظل هكذا كليلة قاصرة، لأنها أمام بحر خضم لا ساحل له.
5- سمو الروح، ونبل الهدف في القرآن: فهو ليس كتاب قصص أو تسلية، أو أدب أو حكمة أو فلسفة أو تاريخ أو اجتماع وإنما هو منهج متكامل للحياة الصحيحة في كل جوانبها.
6- جلال أثره الأدبي في لغة العرب، وحياتهم وأدبهم، وفي حياة المسلمين والعالم كله.
7- خلوده على مر الأيام، والعصور والأمكنة، مع عجز الناس عن معارضته، رغم أنه تحدى ولا يزال… وتاريخ العالم مشتمل على الأفذاذ من الأدباء والبلغاء.
8- بساطة القرآن في أسلوبه، ووضوحه وجماله وجزالته.
9-وأخيرا وليس آخرا: ما جاء به القرآن من إعجاز علمي مبدع، جعل العلماء يخشعون لجلال هذا الكتاب وسبقه في هذه الميادين… ومن هذا اللون العلمي قول الله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ}.
هذا هو القرآن في سموه وجلاله، وسحره وجماله وخلوده وكماله، ولقد وقفت الإنسانية صاغرة أمامه، على الرغم مما يزخر به تاريخها من عباقرة وأساطين في الفكر والأدب والاجتماع، وما يحفل به من نوابغ لسن وخطباء مصاقع… وصدق الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.

.موطن الإعجاز في القرآن:

إن أهم معجزة للرسول العظيم: هو القرآن الكريم، وقد حمل دعوة التحدي به إلى الناس عامة، وإلى العرب خاصة، في أكثر من موضوع منه، ومع ثبوت هذا، فإن الوقوف على الجهة التي كان منها الإعجاز القرآني، أمر لم تلتق عنده الآراء، ولم يكن محل اتفاق بين الباحثين والناظرين في وجوه الإعجاز، في كل زمان ومكان.
فهناك أكثر من رأي، وأكثر من مذهب في الجهة أو الجهات التي كان بها القرآن مفحما، على ما سنرى في موضعه، وليس كذلك الشأن في معجزات الأنبياء… إذ كل معجزة كانت تنادي معلنة في وضوح عن صفتها التي أعجزت بها، وتشير في صراحة إلى الجهة التي جاء منها الإعجاز، فيعلم الناي لوقتهم ماذا في المعجزة من دلائل الإعجاز، وماذا فيها من القوة القاهرة المعجزة التي لا يستطيعون القيام لها، والجري معها.
وماذا يبحث الناس في عصا موسى عليه السلام مثلا؟ إنها مجرد عصا… لا تختلف في مرأى العين عن أي عصا أخرى… ليس فيها أجهزة، ولا عدد، ولا أي خروج عن صفات العصي التي في أدي الناس… ولكنها في يد موسى تنقلب إلى ثعبان مبين يلقف ما يأفكون.
وليس في يد موسى غير ما في أيدي الناس… لحم ودم وعظم وعصب وعروق، لا تختلف في شيء أبدا عن الأيدي التي تحيا في أجساد الناس وتعمل لهم.
إذن فهناك قدرة لا ترى… هي قوة الله… التي تمد موسى بهذه المعجزات، وليست يده أو عصاه إلا أداة تحمل هذه المعجزة أو تلك.
كذلك معجزة عيسى عليه السلام... يدعو الميت فيحيا، ويمس الأكمه والأبرص فيبرأ… وليس في صوته الذي يدعو به شيء يخالف مألوف الأصوات المعروفة للناس… إنه مجرد كلمة تنطلق من فم، فإذا هي حياة، وإذا روح تسري في موات فتبعثه من مرقده.
إذن فليس الشأن في هذا الصوت، أو في تلك الدعوة، وإنما هي قوة قادرة… لا ترى… قد جعلت لهذه الكلمة ولتلك الدعوة هذا الأمر المعجز‍! هي قوة الله تعالى.
أما القرآن فشأنه غير هذا الشأن وأمره على خلاف هذا الأمر‍!
فهو كلمات، وألفاظ، وعبارات، لا تختلف عما ألف الناس، مما يجري على ألسنتهم من كلام... إنه كلمات مألوفة معروفة… تعامل بها الناس، فأخذوا بها وأعطوا… وقلبوها على جميع وجوهها... في مختلف الأساليب، وشتى التراكيب.
إن كل ما في القرآن من كلام هو مما كان يدور على ألسنة العرب، ومما يصاغ منه نثرهم، ونظمهم.. من خطب، وحكم ومساجلات، ومن قصيد ورجز… وفي هذا يقول الله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
ثم إن هذه الكلمات التي عرفت -بعد- باسم القرآن، والتي تحدى بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم العرب جميعا، ثم الإنس والجن قاطبة، هذه الكلمات لها ما كان لكلمة عيسى حين كان ينطق بها فتتجسد معجزة قاهرة يشهدها الناس، ويرونها رأي العين.
إن هذا الكلام المألوف المعروف حين ضمه القرآن إليه، ونظم منه آياته، وصور منه أحكامه وقصصه، وجدله، ومواعظه، وزواجره، هذا الكلام قد أصبح منذ ذلك اليوم معجزة قاهرة، تتحدى الناس جيلا بعد جيل… وأمة بعد أمة… فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.
ولكن... أين هي المعجزة في هذا الكلام؟ وماذا يبدوا للناس منها؟ وماذا يشهدون من إعجازها؟ وكيف يضع الناس أيديهم على المعجزة، ويرفعون أبصارهم إليها؟.
إنها معجزة لا ترى بالعين، ولا تلمس باليد!
وعلى الناس أن يسمعوا لهذا الكلام، وأن يتدبروا آياته… وعندئذ يرون ببصائرهم -لا بأبصارهم- في كل آية معجزة قاهرة… تعنو لها الجباه، وتخضع لها الرقاب.
إن على الناس أنفسهم… أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم لهذه الكلمات، فإنهم إن فعلوا تكشف لهم منها ما كان يتكشف من عصا موسى عليه السلام ويده، ومن كلمة عيسى عليه السلام… وهذا مفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإنما كان هذا الذي أوتيته وحيا أوحي إلي»..
إنها آيات… معجزات… وما يعقلها، ويعرف وجه الإعجاز فيها إلا العالمون الذين يلقون أسماعهم لها، ويفتحون قلوبهم وعقولهم للحق الذي فيها، وللنور الذي معها.
ومن ثم كانت أنظار المسلمين دائما معلقة بهذا الكتاب، يدرسونه، ويتدارسونه، ويلقونه بكل ما تسعفهم به الحياة من علوم ومعارف، فيجدون كل شيء دون ما في كتاب الله من علوم ومعارف، فيزداد لذلك تعلقهم بكتاب الله، وتتوثق صلتهم به، ويشتد إقبالهم عليه، ومدارستهم له.
وفي كل يوم من أيام المسلمين تظهر دراسات وبحوث في القرآن وعلوم القرآن، حتى لقد اجتمع من ذلك ما لا يحصى عدا.

.(العلماء والإعجاز في القرآن الخالد:)

ولقد كان نصيب (الإعجاز) في مباحث القرآن نصيبا موفورا، وقد أفرده بعضهم بدراسة خاصة، كما فعل عبد القاهر الجرجاني والرماني والخطابي والباقلاني... إلا أن أكثر مباحث الإعجاز هي التي كانت تجيء ضمن مباحث التفسير أو القراءات… فمعظم الذين فسروا القرآن حاولوا أن يجعلوا في صدور تفاسيرهم إشارات تتضمن آراءهم في فضل القرآن وفي إعجازه.
ولعل! (الزمخشري) أشهر هؤلاء المفسرين وأولاهم بالذكر في هذا المقام، إذ كان تفسيره (الكشاف) يبحث عن مناط الإعجاز في كتاب الله… في آياته، آية آية، وفي كلماته، كلمة، كلمة.
وقد آن لنا أن نلتقي بعد هذا مع بعض هؤلاء العلماء والمفسرين، الذين يتسع المجال للقائهم والتحدث إليهم.

.الجاحظ ورأيه في الإعجاز:

1- الجاحظ:
رأيه في الإعجاز:
في رسالة للجاحظ بعنوان (حجج النبوة) يتحدث الجاحظ عن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها قائمة في القرآن الكريم، الذي هو معجزته الكبرى… الخالدة، ويقيم الدليل على هذا بما عرف من تحدي القرآن للعرب، وعدولهم عن لقاء هذا التحدي، والنزول في ميدان القول... فهربوا من هذا الميدان… وأوقدوا نار الحرب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم… فقتلوا وقتلوا…ولو كان في مستطاعهم أن يصمدوا لهذا التحدي لما فروا هذا الفرار المشين، ولما رضوا أن يعرضوا أنفسهم للموت، وخاصة بعد أن ظهر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الميدان أيضا، وقتل كثير من فرسانهم ومشيختهم.
يقول الجاحظ:
إن محمدا عليه الصلاة والسلام مخصوص بعلامة، لها في العقل موقع كموقع فلق البحر من العين... وذلك قوله لقريش خاصة، وللعرب عامة -مع ما فيها من الشعراء والخطباء والبلغاء- والدهاة، والحلماء، وأصحاب الرأي والمكيدة، والتجارب، والنظر في العاقبة: إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كذبت في دعواي، وصدقتم في تكذيبي.
ثم يتحدث عن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيقول:
وكذلك دهر (محمد) صلى الله عليه وسلم، كان أغلب الأمور عليهم وأحسنها عندهم وأجلها في صدورهم حسن البيان ونظم ضروب الكلام، مع علمهم له، وانفرادهم به، فحين استحكمت لغتهم، وشاعت البلاغة فيهم، وكثر شعراؤهم، وفاق الناس خطباؤهم، بعثه الله عز وجل فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه، فلم يقرعهم بعجزهم، وينقصهم على نقصهم حتى تبين ذلك لضعفائهم وعوامهم، كما تبين لأقويائهم وخواصهم، وكان ذلك من أعجب ما آتاه الله نبيا قط، مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات.
ذلك هو رأي الجاحظ في إقامة الحجة على وقوع الإعجاز بالقرآن… وهو رأي -كما ترى- تقوم بين يديه أدلة قاطعة… وإن أكثر الذين أقاموا الحجة على إعجاز القرآن من هذه الوجه، إنما نظروا إلى رأي الجاحظ هذا، واعتمدوا عليه، وداروا حوله... ومنهم (الباقلاني) في كتابه (إعجاز القرآن)… والزركشي في كتابه (البرهان في علوم القرآن)… وغيرهما ممن كان لهم رأي في إعجاز القرآن!!.